الأربعاء، 17 فبراير 2016

التحضر في الوطن العربي

التحضر في الوطن العربي

الخلفية الثقافية والحضارية للبلدان العربية

منذ القدم، كانت سوريا ومصر والمغرب وتونس أكثر تحضراً من غيرها، لأن مدنها – دمشق وحلب وبيروت والقاهرة والإسكندرية والدار البيضاء والرباط وتونس – مدن عريقة مزدهرة ذات تراث ثقافي معروف منذ القدم. وأيضاً، لأن معظم سكان هذه المدن هم من التجار الذين هم تقليدياً أكثر انفتاحاً من غيرهم على العالم الخارجي. فقد كانت هذه البلدان، بالتالي، أول من تأثر بالحضارة الغربية الحديثة – منذ أواخر القرن الثامن عشر – في الوقت الذي بقيت فيه باقي البلدان العربية منعزلة، كالسعودية أو الإمارات، التي كان معظم سكانها الأصليين بدواً رُحَّلاً أو صيادين والتي لم تنفتح على العالم الخارجي إلا متأخراً جداً، في أواخر القرن التاسع عشر أوائل القرن العشرين مع بدايات استثمار النفط.

وقد نجم عن هذا الانفتاح الأبكر والأعمق على العالم الخارجي، وخاصة على الحداثة الغربية ومؤثراتها، تغيرات عميقة في قلب المجتمعات المدنية لكلٍّ من سورية ولبنان ومصر وتونس والمغرب. وكان من ذلك نشوء نخبة متوسطة الحال ومثقفة، إلى جانب تراثها بالعلوم والقيم والمفاهيم الغربية، قادت في حينه المعارك الثقافية والسياسية في بلدانها من أجل الحداثة والاستقلال، تلك الفئة – النخبة الحقيقية – التي خفَّ تأثيرها اليوم كثيراً، ولكن التي لم تزل تشارك في معارك بلدانها من أجل الحقوق المدنية والسياسية. ونتذكر أنه بفضل هذه الفئة وعمق تأثيرها الاجتماعي في حينه باشرت النساء المصريات نضالهن المطلبي من أجل حقوقهن منذ أواخر القرن التاسع عشر، وفي سوريا منذ أوائل القرن العشرين. وأيضاً وخاصةً، بفضل هذه النخبة وعمق تأثيرها في حينه، تحقَّق في هذه البلدان نوعٌ من الفصل الأعمق بين الدين والدولة، فصل مازال سائداً فيها حتى تاريخه، الأمر الذي جعل أوضاع المرأة في هذه البلدان أفضل من غيرها...



5 – 4: النفوذ الغربي:

لأنه لا توجد في عالمنا دولة تعيش بمفردها و/أو بوسعها أن تكون كذلك. وتلك حال البلدان العربية التي أضحت، بسبب أهمية موقعها الجيوسياسي، وثيقة الارتباط بحلقات تأثير الآخرين، وخاصة الدول الغربية؛ الأمر الذي انعكس عليها خلال تاريخها الحديث سلباً وإيجاباً:

إيجاباً، بمعنى الحداثة وانعكاساتها الإيجابية الثقافية والمدنية وما يرافقها من نهوض اقتصادي عام؛ و...

سلباً، بمعنى ما تتسبب في تمزيقه من نسيج اجتماعي في هذه البلدان، من خلال ما يرافقها من جشع واستغلال اقتصادي و/أو طبيعة الأنظمة القمعية والفاسدة التي تنجم عنها.

والموضوع عميق ومتشعب (ويتجاوز الإطار الذي رسمناه لهذه المقاربة) ويشكل موضوعاً بحدِّ ذاته. لكننا، رغم هذا، نجد من الضروري إلقاء بعض الضوء حوله...

لأن الحداثة هي – اجتماعياً – التحول من مجتمع تقليدي، ريفي وزراعي، إلى مجتمع مدني وصناعي. وتلك كانت حال البلدان العربية عند بدء احتكاكها بالحضارة الغربية الصناعية المنتصرة. وتلك مازالت حالها عبر الحداثة حتى هذه الساعة. وأيضاً لأن...

للحداثة وجهان: الأول (وهو وجهها الإيجابي) دينامي، تقدُّمي، يتطلع إلى المستقبل ويؤمِّن الوفرة والازدهار؛ والثاني، المرئي أيضاً ومباشرة (وهو وجهها القبيح)، شرسٌ، يُبرِز مشاكل جديدة، كالعزلة والفقر والجريمة والتلوث. وتلك هي أيضاً حال معظم البلدان العربية (إن لم نقل جميعها)، وقد تجاوزت بعض أوجه الحداثة فيها الحدود، مولِّدة ردود فعل سلبية، كما هي الحال، مثلاً، في دمشق وبيروت والإسكندرية وحلب والقاهرة، حيث

- هاجر سكان الريف إلى المدن التي أمست مكتظة، مما دفع سكانها إلى تركها من أجل إعمار ضواحٍ سكنية جديدة في الريف المحيط، الذي أضحى مرتبطاً بالمدينة، رغم شكله شبه الريفي؛ وكما هي الحال اليوم في دمشق التي أضحت أقرب إلى تجمُّع للقرى منه إلى المدينة الحقيقية. وأيضاً...

- السأم من رتابة المنتجات الصناعية التي اكتسحت الأسواق والعودة إلى الاهتمام مجدداً بالمنتجات اليدوية والطبيعية. وأيضاً...

- حركات الاحتجاج المتصاعدة ضد العقلنة والرتابة التي يمكن تلمُّسها من خلال تلك الحركات المتتالية من الثقافات الشبابية وذلك الانبعاث الديني الذي طبع المجتمعات الصناعية السابقة. وأيضاً...

- انبعاث الحركات العرقية والدينية التي عادت من جديد لتؤكد على هويتها. وأيضاً...


- وفي كل مكان، تصاعد الحركات الثقافية والقومية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق