الأربعاء، 17 فبراير 2016

اثار الاستعمار الاوروبي على الوطن العربي

اثار الاستعمار الاوروبي على الوطن العربي



التأثيرات الثقافية التي يتعرض لها الأفراد والجماعات والشعوب يمكن تصنيفها تصنيفاً مبسطاً إلي ثلاثة أنواع: (1) الانصهار الكامل في رموز ثقافة الغير، و(2) التأثر المتوسط برموز ثقافة الآخر، و(3) التأثر الخفيف برموز ثقافة الآخر.
فليس من المبالغة في شيء القول اليوم بأن رموز الحضارة والثقافة الغربية المعاصرة هي الوحيدة التي لا يكاد يستشف من تأثيرها الخفيف أي مجتمع من المجتمعات.
فإلقاء العديد من قادة العالم الثالث في السجون في العصر الحديث لم يمنعهم من الكفاح والصمود امام القوي المادية العاتية والضخمة للمستعمر. وليس هناك من تفسير علمي لفوزهم في النهاية علي الرغم من محدودية امكانياتهم العادية علي المحتل او المستعمر سوي تدرعهم بالسلاح المعنوي او بسلاح عالم الرموز الثقافية وفقا لاصطلاحنا في هذا البحث. وما الانتفاضات الشعبية ضد الطغاة في القديم والحديث الا تصديق لمدي اهمية الذخيرة التي يمكن ان يمد بها عالم الرموز الجنس البشري بحيث تصبح طاقات هذا الاخير تحديا لاضخم قوة عسكرية يمكن ان يملكها الطاغية او المستعمر. فقوة الرموز الثقافية او القوة المعنوية هي قوة هائلة لا يكاد يقف امام جبروتها اي شيء مادي مهما كانت طبيعته القاهرة. فعنفوان هذه الطاقة التي يستلمها الانسان من عالم الرموز الثقافية تستمد قوتها من عالم السماء لا من العالم المحسوس للانسان. ومن هنا يأتي المدلول الميتافيزيقي لقيم الحرية والعدالة والمساواة.. كرموز قادرة علي شحن الافراد والجماعات بطاقات ماردة جبارة تشبه الي حد القوة الالهية الضاربة التي لا يستطيع ان يعترض سبيلها معترض. وهذا ما توحي به بيت الشاعر العربي المعروف: ابي القاسم الشابي:
اذا الشعب يوما اراد الحياة
فلابد ان يستجيب القدر
فمصدر ارادة الشعب كما بينا هو عالم الرموز: الدفاع عن الحرية عن مبدا المساواة والعدل والاستقلال واحترام الذات.. عندما يجمع الناس امرهم علي ذلك يصبح فعلهم كفعل القدر لا مرد له. وهذا ما يفسر لجوء الناس الي الحديث عن المعجزات في بعض الاحداث الفردية او الجماعية التي تدخل سجل تاريخ الافراد والمجتمعات رغم عدم توفر المعطيات المادية لذلك. فتسرع الاحداث الاخيرة في المجتمع الروماني يعتبر ضربا من المعجزات . فنظام الرئيس السابق نيكولاي تشاوشيسكو كان نظاما ديكتاتوريا مدة ربع قرن. احكم سلطته علي الجيش العام وعلي شرطة الامن (سيكوريتات) وعلي الحزب الشيوعي الحاكم.. ولكن ما ان اشتعل لهيب الثورة الشعبية في مدينة تيميشواره حتي امتد هذا اللهيب بسرعة الي العاصمة بوخارست وحاول تشاوشيسكو اطفاء اللهيب بخطاب القاه بالساحة الكبري بالعاصمة في 22 كانون الاول (ديسمبر) 1989. ولكن انتشار الجيش والشرطة السرية لايقاف الثورة الشعبية الصاخبة بالقيام بالمجازر وبعمليات التعذيب فشل في اخفاء الثورة فأجبر الجيش للتحالف مع الشعب الغاضب الذي تحركه قيم الحرية والعدالة والمساواة وكسب الشعور والممارسة لاحترام ذات كل روماني.. وكانت نهاية تشاوشيسكو وزوجته الاعدام يوم 25 ديسمبر 1989. وهكذا انتهي عهد كامل بتلك السرعة التي لا تكاد تصدق.. فقوة الشعب المسلحة بذخيرة عالم الرموز الثقافية: الديمقراطية، الحرية، العدل، المساواة.. اصبحت قوة ماردة جبارة تفوق بكثير القوة المادية التي تسلح به تشاوشيسكو وشرطة أمنه وجيشه. اصبحت قوة شبه إلهية لا تبقي ولا تذر.

رابع عشر: المدلولات الحقيقية للغزو الثقافي من منظور عالم الرموز:
ان القول المشهور بأن غزو الثقافات للشعوب أخطر من غزو العساكر قول ذو مصداقية عالية. وكذلك الشأن بالنسبة للندوات والبحوث والمؤلفات المعاصرة حول أخطار ما يسمي بالامبريالية الثقافية التي تفرضها خاصة الثقافات الفرنسية والانكليزية والامريكية علي كثير من مجتمعات العالم المعاصرة وفي طليعتها مجتمعات الوطن العربي وبقية بلدان العالم الثالث.
ورغم صحة تلك المقولة الا انها طالما تبدو او تتهم بانها مقولة ذات ظلال ايديولوجية وذلك لفقدانها في اغلب الحالات التي تصور ابستيمولوجي ومنهجي يخلصانها من الضبابية التي طالما تحجب علي كل من ضحايا الغزو الثقافي واصحاب الثقافة الغازية انفسهم الوجه الحقيقي للغزو الثقافي وذلك حتي اذا كانت نية الطرفين حسنة. اذ انه حسب مطالعاتنا لما كتب في موضوع الغزو الثقافي حديثا ولما سمعناه في المناقشات والتحليلات بهذا الصدد فان التراث المعرفي المجمع بخصوص قضية الغزو الثقافي يخلو اساسا من بعض عناصر اطار التحليل لعالم الرموز كما هو مطروح في هذه الدراسة.

الغزو الثقافي والعرب
فالغزو الثقافي كما تقع معالجته من طرف العلماء والمفكرين المحدثين يقتصر عندهم علي العموم علي التحليل الوصفي لأدوات الغزو الثقافي والمتمثلة في هيمنة اللغة والفكر والقيم.. للثاقافات الفرنسية والانكليزية والامريكية علي فئات وقطاعات متعددة في كثير من مجتمعات العالم اليوم.
فعلي مستوي اول هناك نقص في الدقة في طرح مسألة الغزو الثقافي كما توحي بذلك عبارات الاستيلاب الثقافي و الغزو الثقافي الصهيوني و الامبريالية الاستعمارية الثقافية فكل هذه التسميات المختلفة تقتصر فقط علي تسجيل وجود ظاهرة تفشي انتشار رموز ثقافية الاخر والتحليل والفهم العلميين لاخطار ظاهرة الغزو الثقافي يتطلبان طرحا يحدد ويحصر باكثر ما يمكن من الدقة الاسس الرئيسية للظاهرة المدروسة فاستعمالنا لعبارة عالم الرموز عند الانسان تندرج في رأينا في محاولة علمنة الفضاء الرموزي عند الانسان. ويتمثل ذلك في إبراز: 1) ان الانسان يمتاز عن غيره من الكائنات الاخري بعالم رموز ضخم وبقدرة فائقة في استعماله لتلك الامكانيات والطاقات الرموزية. وهذا ما جعلنا نطلق عليه بانه كائن رموزي او ثقافي بالطبع اولا وقبل كل شيء. 2) ان مسألة ضخامة حجم الرموز عند الانسان ليست قضية شكلية او كمية فحسب وانما هي ايضا نوعية او كيفية، انها عمق جوهر الانسان ذاته. انها روح هذا الكائن العاقل فعليها يتوقف اذن فك الغاز طبيعة الانسان، ومن دون اعطائها الاولوية والمركزية في دراساتنا العلمية للانسان لا يمكن لجهود علماء النفس والاجتماع ان تتقدم في ارساء رصيد معرفي يتصف بالمصداقية العلمية المطلوبة لفهم السلوك الفردي والجماعي للانسان.
خسائر التبعية
فمقولة الغزو الثقافي للافراد والجماعات هو اخطر اصناف الغزو جميعا . يصبح لها إذاً مدلول اكثر دقة وتعمقا في طبيعة الاشياء بالنسبة لظاهرة الغزو الثقافي التي تحدث بين الشعوب اذ ان هناك فرقا في تقييم انعكاسات هذه الظاهرة علي الافراد والجماعات بين من يعتبر من جهة ان عالم الرموز يمثل مركز الثقل في تركيبة الانسان وبين من يهمش دور عالم الرموز في فهم الانسان من جهة اخري. فالغزو الثقافي عند الاول سوف ينظر اليه علي انه اخطر ما يمكن ان يتعرض له الانسان ككائن ذي خصوصية ثقافية فالامر يبعث علي الفزع المفراط عند هذا الفريق لان الغزو الثقافي يعني المس بأهم شيء يميز به الانسان واعمق شيء في كينونته، فانتشار لغة وفكر وقيم اجنبية في مجتمع ما علي حساب لغة وفكر وقيم.. المجتمع نفسه تمثل عملية غزو للعقول او للروح بمعناها القرآني كما سبقت الاشارة اليها في آية. .. فاذا نفخت فيه من روحي .
اما بالنسبة للفريق الثاني فلا حاجة للانزعاج من كيد اثار الغزو الثقافي. فالاولي عنده ان يجمع الناس امرهم ويقفوا بالمرصاد لأخطار الغزو الاقتصادي وما يصحبه من استغلال لموارد البلاد التي تسقط ضحية السيطرة الاجنبية علي حركية اقتصادها.
وعلي مستوي ثان فالمهتمون بمسألة الغزو الثقافي من المفكرين والاكاديميين لا يكاد يجد المرء في بحوثهم وتحاليلهم اي اشارة الي ما اطلقنا عليه هنا الجوانب الميتافيزيقية للرموز الثقافية عند الانسان. فاللغة كمثال، ليست اداة تبادل التخاطب مع الاخر فقط في هذا العالم الحسي المحكوم بقيود الزمان والمكان. ففي الديانات التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل استعمل الانسان اللغة في تضرعاته وابتهالاته الي الاله. فاللغة هي احد الرموز الرئيسة التي يلوذ اليها الكائن الانساني للاتصال بالعالم السرمدي. وبواسطة اللغة المكتوبة علي الخصوص استطاع الانسان ان يصون فكره من التلاشي والاندثار برغم عوائل الزمان والمكان . فاللغة تمكن فكر الانسان من حظوة كسب رهان نوع من الازلية.
وهكذا يشترك مع الاله في اكتساب شيء من صفة الخلود التي ينفرد بها الاله في معناها المطلق. فمن وجهة النظر العلمية الوضعية الحديثة يدخل الانسان بمساعدة مهاراته اللغوية عالم الميتافيزيقيا التي لا تعترف بوجوده تلك الرؤية الوضعية.

طاقة القيم
واللمسات الماورائية لا تكاد تخلو منها الرموز الثقافية الانسانية الرئيسة . فالدين كرموز وشعائر تتجلي فيه بوضوح الملامح الميتافيزيقية. واما ما نسميه بالقيم الثقافية كالحرية والصدق والعدل والمساواة.. فهي رموز ثقافية حبلي بالدلالات الميتافيزيقية خاصة عندما نحاول تشخيص مدي تأثيرها علي سلوك الفرد والجماعة في ظروف تداس فيها قداسة تلك القيم، فالتاريخ يشهد بان التحولات والثورات الكبري التي عرفتها المجتمعات والحضارات البشرية طالما كانت حصيلة التأثير الجارف للقيم الذي لا يكاد يوقف زحفه مكر اشد الطغاة فالثورتان الفرنسية في 1789م والثورة الرومانية في عام 1989 مثالان علي مدي قوة الطاقة الجبارة الماردة التي تختزنها القيم كرموز دافعة ومحركة للسلوك الانساني. فانهزام القوة العسكرية والمادية للطغاة والمستعمرين امام صمود هؤلاء الذين التفوا حول بعضهم بعضاً للدفاع عن قيم الديمقراطية والمساواة والحرية.. يؤكد بان القيم تتمتع بنوع من الذخيرة الرموزية (المعنوية) التي تضفي عليها شبه صفات القوة الالهية الضاربة التي لا يستطيع اثباط عملها احد.
فمن هذا المنطلق تتجلي اللمسات الميتافيزيقية لعالم القيم كرموز مؤثرة وحاسمة في توجيه السلوك الانساني عند الفرد وعند الجماعة علي السواء. وهذا في نظرنا ما تشكو منه ادبيات القيم الثقافية لعلماء الانثروبولوجيا والاجتماع المعاصرين فهم طالما ركزوا اهتماماتهم علي وصف القيم كرموز ثقافية تهدف اساسا الي المحافظة علي استقرار النظام الاجتماعي للمجتمع وحتي عند دراسة القيم الثقافية كعامل للتغيير الاجتماعي في المجتمعات فلا يكاد المرء يجد في ادبيات العلوم الاجتماعية الحديثة تعمقا علميا يطرح الجوانب الميتافيزيقية للقيم كرموز ثقافية والتي من دون طرحها يصعب ــ في رأينا ــ استعمالها موضوعيا كمفاهيم وكمصطلحات علوم اجتماعية تساعد علي تحسين مصداقية تفسيرات وتنبؤات علوم الانسان المجتمع.


بين الاستقلال والانصهار
والتأثيرات الثقافية التي يتعرض لها الأفراد والجماعات والشعوب يمكن تصنيفها تصنيفاً مبسطاً إلي ثلاثة أنواع: (1) الانصهار الكامل في رموز ثقافة الغير، و(2) التأثر المتوسط برموز ثقافة الآخر، و(3) التأثر الخفيف برموز ثقافة الآخر.
فليس من المبالغة في شيء القول اليوم بأن رموز الحضارة والثقافة الغربية المعاصرة هي الوحيدة التي لا يكاد يستشف من تأثيرها الخفيف أي مجتمع من المجتمعات. والسبب في ذلك يرجع إلي سلسلة من الهيمنات الواسعة النطاق ومروراً بثورتها الصناعية ثم انجازاتها العلمية في كل الميادين في العصر الحديث وتصديرها لانتاجها الصناعي إلي كل البقاع في القارات الخمس. ومما ساعد في تأكيد انتشار رموز الثقافة الغربية أكثر من غيرها هو انتشار معرفة اللغتين الانكليزية والفرنسية وثقافتهما بين أهل المجتمعات المستقبلة لصناعة المجتمعات الأكثر تقدماً. وهذا ما يُفسر في نظرنا إلي حدّ كبير شبه الغياب الكامل لأي تأثير جدير بالذكر بالنسبة لرموز الثقافة اليابانية في البلدان المستوردة للبضاعة اليابانية. وذلك بالرغم من ضخامة حجم الصادرات اليابانية لكل أصناف العربات والسيارات والالكترونيات ذات الجودة المعروفة. فرموز الثقافة اليابانية لا ينتظر منها أن تكسب رهان الانتشار مثلما هو الحال بالنسبة لرموز الثقافات الفرنسية والانكليزية والأمريكية طالما أنها لم تعمل علي نشر تعليم لغتها وثقافتها بين الشعوب.
أما التأثر المتوسط برموز ثقافة الآخر فهو الصنف الأكثر انتشاراً في العصر الحديث بالمجتمعات. فكنتيجة للتجربة الاستعمارية التي عرفها العالم الثالث في القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن علي الخصوص انتشرت لغات المستعمرين (الانكليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية..) وثقافتهم بين العديد من فئات تلك الشعوب المختلفة. فظهر بين تلك الفئات التي تأثرت بثقافة المستعمر صنفان من الازدواجية اللغوية والثقافية:
(أ) الازدواجية اللغوية الثقافية المتزنة: وهي التي يتساوي فيها طرف الازدواجية من حيث قدرة الفرد علي الاستعمال بالتساوي اللغة الوطنية ولغة المستعمر من جهة والتمكن من معرفة الثقافة الوطنية وثقافة المستعمر بالتساوي أيضاً من جهة أخري. والدراسات تؤكد في هذا المجال أن ظاهرة الازدواجية اللغوية الثقافية المتزنة ظاهرة نادرة جداً بين الأفراد والمجموعات البشرية. ولعل أقرب ما يمثل هذا الصنف من المجتمع التونسي المعاصر هم خريجو ما يسمي بالمدرسة الصادقية في فترة ما قبل الاستقلال علي الخصوص. فازدواجيتهم اللغوية والثقافية التي يغلب عليها الاتزان هي ازدواجية عربية فرنسية لغة وثقافة.
(ب) الازدواجية اللغوية الثقافية غير المتزنة: وهي تلك الازدواجية التي يتفوق فيها تكوين الشخص في لغة وثقافتها علي لغة أخري وثقافتها. ويأخذ هذا الصنف من الازدواجية شكلين في مجتمعات العالم الثالث وغيرها من المجتمعات المعاصرة:
(1) أن يكون التفوق في الازدواجية لصالح اللغة والثقافة الوطنيتين أو (2) أن يكون التفوق في الازدواجية لصالح اللغة والثقافة الاجنبيتين. ويمثل هذين الفرعين من الازدواجية غير المتزنة من المجتمع التونسي المعاصر بعضٌ من خريجي جامع الزيتونة من جهة وخريجو ما يسمي بمدارس البعثات الفرنسية Mission من جهة أخري. فالزيتونيون الذين ينطبق عليهم الصنف (1) من الازدواجية اللغوية الثقافية غير المتزنة هم علي العموم هؤلاء الذين تلقو تعليمهم الابتدائي عادة في المدارس المزدوجة اللغة والثقافة (عربية ــ فرنسية) ثم التحقوا في دراستهم الثانوية أو العالية بالتعليم الزيتوني. وهكذا يتضح سبب تفوق تكوينكم في اللغة العربية وثقافتها علي نظيره في اللغة الفرنسية وثافتها. وأما تكوين خريجي مدارس البعثات الفرنسية فتتفوق فيه اللغة الفرنسية وثقافتها تفوقاً كبيراً علي تكوين هؤلاء التونسيين في اللغة والثقافة العربية.
فالازدواجية اللغوية الثقافية غير المتزنة هي اذن الأكثر انتشاراً في المجتمع التونسي المعاصر قبل الاستقلال وبعده. ولا ينفرد بذلك المجتمع التونسي وحده. بل أن ظاهرة الازدواجية الثقافية غير المتزنة هي الأكثر شيوعاً بين أفراد المجتمعات في القديم والحديث. فالمجتمع الكندي الحديث يعترف رسمياً باللغتين الانكليزية والفرنسية وثقافتهما. ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الفرد الكندي العادي هو شخص ذو ازدواجية لغوية وثقافية متزنة. بل إن الأكثر دقة هو القول بأن أغلبية مواطني المجتمع الكندي اليوم ينتسبون إلي صنف الازدواجية الثقافية واللغوية غير المتزنة. ولا يختلف الأمر في الأساس في المجتمع السويسري والمجتمع الهندي والمجتمع الروماني وغيرها من المجتمعات المعاصرة في الشرق والغرب. وتتفق هذه الملاحظات حول الوجود الأكثر لظاهرة الازدواجية اللغوية والثقافية غير المتزنة في المجتمعات الانسانية مع اشارتنا السابقة الذكر والمتمثلة في أن الازدواجية اللغوية والثقافية المتزنة ظاهرة نادرة. وليس هناك ما يدل رغم تقارب الشعوب وتكاثف تفاعلاتها في العصر الحديث أن هذا النوع من الازدواجية اللغوية والثقافية سوف يصبح هو السائد في المجتمعات البشرية المستقبلية.

رموز اللغة
فمن مناقشة ظاهرة الازدواجية اللغوية والثقافية بصنفيها وفرعيها يتبين أن مساهمتها في عملية ما أطلقنا عليه بالغزو الثقافي أو الانصهار الثقافي تختلف من صنف إلي آخر ومن فرع إلي فرع. فالفرع (2) من صنف الازدواجية اللغوية الثقافية غير المتزنة (ب) المشار إليه أعلاه هو بالتأكيد الأكثر ترشحاً لخلق الظروف المهيئة لبروز معالم الغزو الثقافي في صورته الأكثر خطراً علي الأفراد والجماعات. فتفوق تكوين هؤلاء في اللغة والثقافة الاجنبيتين يقترن بما يطلق عليه الباحثون اليوم بظاهرتي الاستيلاب الثقافي أو الاغتراب الثقافي . وحدوث ذلك ليس بالغريب من وجهة نظر مقولتنا بالنسبة لمركزية عالم الرموز الثقافية في تركيبة الانسان. فرموز اللغة والفكر والثقافة الاجنبية هي السيطرة علي عالم رموز الانسان المغترب ثقافياً. فهو يسكن ويحيي في المجتمع الذي ولد فيه ولكنه يتكلم ويفكر ويتثقف بلغة وفكر وثقافة الآخر يتواجد هو بجسمه في مجتمعه وفي حبه ولكن عقله وروحه يتواجدان مع الآخر . فهو مثال للقطيعة بين الجسد والروح وما يصاحب ذلك من تمزق جارح للذات المغتربة . ان مسلسل الاغتراب الثقافي للانسان الذي تغلب علي تكوينه اللغة والثقافة الاجنبيتان لا يمكن أن تكون له نهاية من دون القرب والتجذر في اللغة الوطنية وثقافتها. إذ أن عالم الرموز الثقافية له الصدارة كما بينا في كينونة الانسان. ولا ينتظر أن يزحزح شبح الاغتراب الثقافي الا تجذر في عالم رموز اللغة والفكر والثقافة التي ينتمي إليه الانسان المغترب . وهي عملية تحوُّل انتساب ثقافي ليست باليسيرة وطالما تكون أرضية النجاح فيها أرضية هشة. فالعلوم الاجتماعية الحديثة تجمع علي أن تغيير الجانب الثقافي في تركيبة الانسان والمجتمع هي عملية بطيئة وصعبة. ومن هنا جاء المفهوم السوسيولوجي المشهور: الهوة الثقافية لعالم الاجتماع الأمريكي أُجْبرنْ.
فبطئ وصعوبة عملية التغيير في عالم الرموز الثقافية عند الانسان ترجع إلي طبيعة مكانة الرموز الثقافية في تركيبة الانسان. فكينونة الانسان تتلخص، كما أشرنا مراراً، في عالم رموزه الثقافية. اذ هو أولاً وقبل كل شيء كائن ثقافي (رموزي) بالطبع. فالرموز الثقافية تمثل عمق الانسان ذاته، فتبديلها أو محاولة تغييرها تعني مس أعمق عنصر في الطينة البشرية. فعالم الرموز الثقافية عند الانسان لا يبدو أنه عالم يتصف بالسطحية والشكلية. بل هو عالم متي تجذرت عناصره في التركيبة الانسانية تصبح محاولة زحزحتها من أعماق كينونة الانسان معضلة قد لا تفلح في حسمها حتي أحدث الخبرات التي تكسبها اليوم مختلف اختصاصات علوم الانسان والمجتمع. فصعوبة تغيير قيم وعقائد عملية التغيير في ذلك الصنف من عالم رموز الانسان.
وليس من المجازفة في شيء من وجهة نظر احصائية القول في هذا الصدد بأن ظاهرة الاغتراب الثقافي ذات انتشار أوسع بالمجتمعات النامية في العصر الحديث. ويرجع ذلك إلي سببين رئيسين: (1) فترة الاحتلال الاستعماري، و(2) استمرار حضور جاذبية الرموز الثقافية الغربية لدي فئات مختلفة لشعوب العالم الثالث علي الخصوص.
فمجتمعات دول الجنوب عرفت كما هو معهود التسرب الاستعماري الغربي الكاسح لفترات بلغ بعضها قروناً عدة. فتعرضت القارة السوداء علي سبيل المثال إلي الهجوم الاستعماري لجل الحملات الاستعمارية الغربية التي عرفها التاريخ في القرون القليلة الماضية. فكان الاستعمار البرتغالي في أنغولا والاستعمار الايطالي في ليبيا، والاستعمار الاسباني لما يسمي اليوم بمنطقة الصحراء الغربية والاستعمار الهولندي لجنوب أفريقيا والاستعمار البريطاني والفرنسي لما تبقي من القارة تقريباً. ولم تقتصر تلك الغزوات الاستعمارية علي المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية العسكرية لكل مستعمر بل شمل الاحتلال الاستعماري نشر لغة المستعمر وثقافته من ناحية وتقليص دور اللغة والثقافة الوطنيتين من ناحية ثانية. وهناك اتفاق شبه كامل بين الباحثين بأن الاستعمار الفرنسي كان يركز أكثر من نظيره البريطاني علي أهمية جانب الاستعمار الثقافي في عملية الاكتساح الاستعماري للشعوب. وبعبارة أخري فان المستعمر الفرنسي عمل بأكثر جدية في هجومه علي عالم رموز المجتمعات المحتلة. فحاول في الجزائر مثلاً احلال اللغة الفرنسية وثقافتها محل اللغة العربية وثقافتها بدرجة مكثفة كادت تهدد تلك المقومات الاساسية للشخصية الجزائرية تهديداً يصعب بعده أي تدخل يمكن أن يضمن العلاج لتصدع الشخصية الجزائرية

كانت بلاد الشام هي منطقة اللقاء الثالث بين الشرق والغرب في العصر الوسيط إبان الحروب الصليبية وإذا ذكرنا الحروب الصلبية، فينبغي أن نذكر في الوقت نفسه أن الرسالات السماوية هي في الأساس رسالات محبة وأخاء وسلام بين البشر جميعاً .
لقد كانت التحولات الدينية في أوروبا سببا رئيسيا لقيام الحروب الصليبية، ذلك أن كنيسة روما بعد اعتناق الفرنجة للنصرانية غدت ندا للكرسي البطريركي في القسطنطينية، واختصت كنيسة روما دون غيرها بلقب البابا، ولعبت البابوية دورا مهما في إقامة دولة الفرنجة الكارو لنجية كمنافسة لإمبراطورية بيزنطة، ومن ثم أخذت البابوية تطمح إلى توحيد كنيستي الشرق والغرب تحت نفوذها،ولا حت الفرصة حين استنجد ميخائيل السابع بارابنيسز "  Michael vll parapinaces" ملك بيزنطة 1 7 0 1- 78 0 1 م، بالبابا جريجوري السابع "   Gregory vll"73 0 1- 85 0 1 م، يدعوه لإرسال حملة لإنقاذ آسيا الصغرى من الترك، فأسرع جريجوري السابع لتأليب ملوك الكاثوليك وأمرائهم، غير أن عجلة الصراع بين المسلمين والفرنجة قد توقفت بسبب النزاع بين الكنيسة وملوك أوروبا، حتى إذا ما عادت للبابوية قوتها بعد موت هنري الرابع "   Henri iv"، تطلعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع بين السلطتين الزمنية والدينية، ولذا كانت الحروب الصليبية من تدبير البابوية، حيث اتخذ البابا أربانوس الثاني "     urbanus ll. 1088 م ـ 1099 م ، المعروف بتعصبه ضد المسلمين، عندما كان راهبا لدير كلوني، والذي غذى حرب المسلمين في الأندلس، من شكوى الحجاج إلى بيت المقدس، ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأن وظيفة البابوية الأساسية هي القيادة العليا للحرب المقدسة، ثم أن الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرك وفقها، والبابوات هم الذين نظموا الحرب ووجهوها.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، أقوى من العامل الديني، وراء هذه الحركة الصليبية، ولكن الزعماء والقادة عمدوا إخفاءها وراء هذا الستار الديني البراق لإثارة الشعوب وجذب الأنصار.
ثم توالت الحملات الصليبية الأوروبية على الشام ومصر منذ أواخر القرن الخامس الهجري (11 م)، واستطاعت الحملة الأولى أن تنشب أظفارها في الشرق العربي، وتؤسس أربع إمارات صليبية: الأولى في إنطاكية التي تتحكم في شمال الشام، والثانية في الرها التي فصلت العراق عن الشام وهددت بغداد قاعدة الخلافة العباسية، والثالثة في طرابلس المنفذ الاستراتيجي الهام على ساحل البحر المتوسط، والرابعة في مدينة القدس حيث قامت مملكة بيت المقدس سنة 492 هـ/1099 م أقوى الإمارات نفوذاً. 
ولقد اثار هذا الاستعمار الصليبي البغيض غضب المسلمين وأيقظهم من غفوتهم ، فقاموا بزعامة قادة مخلصين منهم لرد هذا العدوان ودخلوا مع الصليبين فى صراع طويل استغرق مايزيد على المائتي عام حتى تمكنوا من طردهم من ديارهم .
كانت بداية الصحوة الاسلامية على يد القائد التركي عماد الدين زنكي صاحب الموصل وحلب الذى حرر الرها من براثنهم سنة 538 ÷ت / 1144 م وفتح الطريق بين شمال العراق والشام ثم جاء ابنه نور الدين محمود صاحب حلب ( ت 596 هـ /1174 م ) فعمل على توحيد الجبهة الاسلامية بضم دمشق ومصر فى وحدة شامية - مصرية ، أحاطت بمملكة بيت المقدس من الشمال والجنوب تمهيدا للقضاء عليها . وأخيرا يأتي القائد ومتم الرسالة الملك الناصر يوسف صلاح الدين ( 565 هـ / 589 هـ / = 1169 - 1193 م ) فيحقق هذا الهدف المنشود بالانتصار على الصليبين فى حطين ( 583 هـ /1187 م ) ودخول بيت المقدس فى ليلة الاسراء والمعراج 27 رجب من نفس السنة ولم يحاول صلاح الدين التمثيل باعدائه كما فعلوا هم من قبل بالمسلمين وقت دخلوهم المدينة ، بل اكتفى باعادة المساجد التى حولت الى كنائس ولا سيما المسجد الاقصى كما سمح لهم بمغادرة المدينة بأموالهم وأمتعتهم ، وسمح لنصاري المشرق بالبقاء مع المسلمين ، وكل هذا يدل على ان صلاح الدين لم يحارب الديانة المسيحية بل حارب السياسة الأوربية الاستعمارية لقد كان صلاح الدين ينشد تحقيق السلام الذى عبر عنه فى احدى رسائلة لأخيه تورانشاه باليمن بقوله : " إن بلاد الشام ، لاتسمع فيها لغوا ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما " ولكن الاستعمار  الاوربي لم يشأ أن يحقق السلام الذى ينشده بسبب الانتصارات الى أحرزها على الصليبين ، فجاؤوها هذه المرة بقضهم وقضيضهم بجيوشهم وأساطيلهم يقودهم كبار ملوكهم أمثال فردريك بربروسا أمبراطور المانيا ، وريتشارد قلب الاسد ملك انجلترا ، وفيليب أوجست ملك فرنسا ، فاستولوا على سواحل الشام بغيه الوصول منها الى بيت المقدس . 
 لقد دامت هذه الحملة المعروفة بالصليبية الثالثة مدة ثلاث سنوات ( 585 - 588 هـ /1198-1192 م ) ولكنها انتهت بالفشل الذريع بعد غرق الامبراطور الالماني ، وعودة الملك الفرنسي ، وفشل الملك الانجليزي فى استعادة بيت المقدس وعودته الى بلاده خائب السعي بعد عقد صلح الرملة مع صلاح الدين . 
 ثم رأي المستعمر الصليبي ، بعد فشل خطوط سير حملاته عن طريق أسيا الصغري والشام ضرورة تغيير اتجاهها نحو مصر أولا ثم الوصول منها الى بيت المقدس ، اعتقاده منه بأن مصر بقوتها ومواردها هى السبب فى فشل مشاريعة الصليبية ، وانه لابد من حرمان الجبهه الاسلامية من هذه القاعدة الهامة ، فمن يريد قتل الثعبان فليحطم راسه أولا " 
 وهكذا تحولت الحملات الصليبية الى مصر بقيادة جان دي بريين  ( سنة 615 هـ /1218م ) ملك بيت المقدس ثم بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ( 647 هـ /1246 م ) ولكن الحملتين منيتا بالفشل الذريع بفضل المقاومة الاسلامية من ناحية وبسبب جهل الصليبين بجغرافية البلاد المصرية من ناحية أخرى اذا كان عليهم عبور النيل بفروعة وقنواته المتعددة وقت فيضانه فحاصرتهم مياهه وعاقتهم أوحاله ، فتساقطوا صرعي وأسرى وفى مقدمتهم ملكهم القديس لويس الذى وقع فى الاسر ايضا فكان النيل مقبرة للغزاه . -  
 وبعد انتهاء دولة الايوبيين ، واصل خلفاؤهم سلاطين المماليك جهاد الصليبين فالسالطان الظاهر بيبرس ( 658 - 676هـ / 126- 1277م ) استولى على عدد كبير من قلاعهم ومدنهم مثل يافا وقيسارية فى الجنوب ، وانطاكية فى الشمال وتبعه السلطان المنصور قلاوون ( 678 - 689 هـ / 1279 -1290 م ) فاستولى على اللاذقية وطرابلس ثم جاء بعده ابنه الاشراف خليل ( 689 - 693 هـ / 190 - 1293 م ) ليقضي على الامارة الباقية من دولتهم فى الشام وهى عكا ( سنة 690 هـ / 1291 م ) . 
 ولم يكتف المسلمون بطرد الصليبين من الشام بل تعقبوا فلولهم فى جزر البحر المتوسط ، فاستولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون على جزيرة أوراد ( سنة 702 هـ / 1302 م ) . كما استولى السلطان الاشراف برسباي على جزيرة قبرص ( سنة 829 هـ / 1426 م ) هذا الى جانب الحملات البحرية التى شنها السلطان سيف الدين جقمق على جزيرة ردوس وغيرها فى شرق حوض البحر المتوسط ( 843 - 847 هـ / 1440-1444 م ) .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق